حصانان في الواسطة .. وللإدارة كلام سابق !
كنت قد كتبت يوماً في هذه الصحيفة العزيزة مقالاً بعنوان "مدرستان في الإدارة .. وللواسطة كلام آخر". اليوم يعود القلم ليكتب عما وعد به (الواسطة). والحق أن الواسطة أو الشفاعة ليست كلها شر، وإنما كما يبدو لها وجه خير ولها وجه سوء. والحديث عنها يطول بل قد لا ينتهي، وخصوصاً ذلك النوع الممقوت الذي تفشى وصار حديث الناس في المجالس بسبب ما خلفه من كراهية وضغينة. المؤكد أن حديثناً اليوم سيكون عن الواسطة المحمودة، التي تقوم على عون المحتاجين ومنحهم ما يستحقون تحت مظلة النظام، دون تقديم أو تفضيل لشخص على آخر. فعلى الرغم من كثرة المسئولين الذين تولوا مناصب قيادية وعليا، إلّا أن هناك قلة ممن يخدم الناس ويقضي حوائجهم بقدرالاستطاعته، وبما يتماشى مع أمانة الوظيفة الموكلة له، من غيرإضرار بمصالح الآخرين .
ومع أنه يفترض في الأنظمة والتشريعات الإدارية أن تقضي مصالح الناس على قدر من العدل والمساواة، إلّا أن هذا استغراق في المثالية والنموذجية، ذلك أن الأنظمة من صنع البشر، وبالتالي لابد وأن يعتريها قصور أو خلل ولو مؤقت في أحسن الأحوال. ففي المنطق العلمي هناك الحالات الشاذة التي تقع في منطقة وسط يجعلها معزولة عن أي انتماء، وتفتقر إلى التفسير العلمي أو المنطقي السليم.
الواسطة الحميدة هي تلك الخدمة أو المعروف الذي يسديه الموظف أو المسئول لشخص آخر، غفلت عنه تلك الأنظمة أو تجاوزته وهو مستحق لها، تحقيقاً لمبدأ العدالة والإنصاف والمساواة، وإرضاءاً لضميره الحي. وقد تكون لأسباب إنسانية وجبت النظر والعناية إستثناءاً مشروعاً وفق الصلاحيات الممنوحة له. على أن غير المشروع من الأمور سيدق له ناقوس الخطر القابع في ذات المؤمن، وهي تلك القطعة من اللحم التي تنبض صباح مساء.
الواسطة الحميدة لها رجالها ولها فرسانها الذين يجيدون ممارستها، لأنها بمثابة التحرك في المنطقة الحرجة بين المسموح والممنوع؛ شأنهم في ذلك شأن اللاعب الماهر والحذق، الذي يتحرك في المنطقة المتقدمة من الملعب وأمام المرمى، وهو يدرك أن الحكم على مقربة منه وفي فمه الصافرة التي سيطلقها عند ارتكاب الخطأ أو عند الوقوع في المحظور.
وبالرغم من صرامة الأنظمة العسكرية والأمنية، إلاّ أن فرسان مدرسة الواسطة الذين جادت بهم الذاكرة كلاهما من الحقل العسكري. الحصان الأول هو اللواء بحري "صالح بن إبراهيم المقرن" أحد مسئولي القوات البحرية السعودية، الذي رمى بطوق النجاة للكثير من المحتاجين والقاصدين، فكان خير موظف وخير مسئول، ولولا تلك الكفاءة والبراعة في مساعدة الآخرين لما نال رضا القادة، وبلغ تلك الدرجة الوظيفية العالية.
أما الحصان الثاني فهو لواء أيضاً ولكنه من مسئولي وزارة الداخلية. إنه اللواء "عمر بن عبدالله الحيلان" الذي كان مسئولاً في المديرية العامة للجوازات، والذي خدم المليك والوطن كما أقسم على ذلك، ومن خدمة المليك والوطن قضاء حوائج الناس ومساعدة المحتاجين الذين أوصى بهم المليك على أنهم جزء ثمين من كيان الوطن. والجميل مع هذا كله رصيده المتزايد من الدعاء الذي تلهج به ألسنة الناس الذين بر بهم وبادر بخدمتهم متواضعاً لخالقه وخافضاً جناحه لبني جلدته.
لقد تقاعد الحصانان، وذهب كل منهما إلى بيته حيث انتهت رحلة الوظيفة، ولكن رحلة الحياة لم تنتهي بعد، كما أن قصة المعروف باقية هي الأخرى، فصنائع المعروف تقي مصارع السوء، ومن يفعل الخير لا يعدم جوازيه، لا يذهب العُرف بين الله والناس .. والله لا يضيع أجر المحسنين.
ملاحظة : لم يسبق للكاتب أن التقى بأي منهما وإن كان يتطلع إلى شرف اللقاء.
بقلم : د. عبدالعزيز بن عبدالله البريثن
16-11-2024
08-11-2024
30-10-2024
07-10-2024
الترتيب بـ
الأحدث
الأقدم
الملائم