.
في رحلة عبادة، وفي ربيع جميل، انطلقت عائلة من مدينة الرياض إلى مكة المكرمة عن طريق البر، في ثلاث سيارات محملة تساير بعضها بعضاً. بعد مدينة عفيف بعشرات الكيلومترات وبشكل مفاجئ تتقلب احدى هذه السيارات أكثر من أربع مرات ليفارق الحياة أربعة أفراد ممن كانوا فيها. مات قائد المركبة "عبدالله"، وشقيقه الجالس على يمينه "صلاح" وأختهم التي كانت في المقعد الخلفي "سندس"، وكذلك الخادمة. أشقاء ثلاثة في ريعان الشباب ذهبوا دفعة واحدة. أما الناجين فكان من بينهم شقيقتهم "تماضر" التي كانت جوار أختها الراحلة سندس. لم تنجو تماضر لأنها كانت في المقعد الخلفي، ولم تنجو لأنها كانت رابطة حزام الأمان بإحكام، وإنما نجت لأن الله قدّر لها أيام باقية في هذه الحياة الدنيا. بعد عشرين عاماً من تلك الفاجعة المؤلمة يأتي اليوم المقدر (الأربعاء 22 ذو الحجة 1441هـ) لفراق تماضر التي سلمت روحها الطاهرة لبارئها بعد أيام من المعاناة مع المرض.
من عجائب القدر أن البشر يعيشون أربع أنواع أو أشكال من الحياة. ومن عجائب القدر أيضاً أن هذه الأنواع من الحياة مترابطة ومتسلسلة من حيث الترتيب ومن حيث التسلسل، وفي الغالب من حيث العمر الزمني أو طول الفترة. ومن الحكم الإلهية أن الناس يتشابهون بشكل تام في الحياتين الأولى والثالثة، بينما يختلفون تمام الاختلاف في الحياة الثانية والرابعة. في الحياة الأولى يعيش كل إنسان في حدود تسعة أشهر في قرار مكين. لا يستطيع أي إنسان أن يدعي أنه عاش سنوات، أو عاش حياة مرفهة في رحم أمه. لا يجرؤ ابن الثري أو ابن الأمير أن يدعي أن رحم أمه كان واسعاً فسيحاً أو ذو اطلاله على حديقة أو بحيرة.
الحياة الثانية يختلف البشر فيها بشكل تام، بما في ذلك الأخوة الأشقاء، فهي كالمزرعة التي يزرع فيها الإنسان ما سيحصده في الحياة الرابعة (الحياة الأخيرة). تبدأ الحياة الثانية بعد خروج الجنين من بطن أمه، وقطع الحبل السري الذي كان يتغذى من خلاله أثناء وجوده في الرحم. في هذه الحياة لا يستطيع أي إنسان أن يتنبأ بمقدار الأيام أو السنوات التي سوف يقضيها في هذه المزرعة. ومع ذلك تستحوذ هذه الحياة على فكر واهتمام كثير من الناس، على الرغم من أنها قصيرة مقارنة بالحياة الثالثة والرابعة. يقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: (ما أنا في الدُّنيا إلَّا كراكبٍ استَظلَّ تحتَ شجرةٍ ثمَّ راحَ وترَكَها). فالدنيا مرحلة يتزود المسلم فيها بالأعمال الصالحة والطاعات؛ أملاً في الفوز بحياة النعيم (الجنة) في الحياة الآخرة.
الحياة الثالثة هي حياة البرزخ، والناس متساوون فيها من حيث المسكن كما يبدو ظاهراً لنا. فلا يستطيع الغني أن يأخذ من ماله شيئاً، ولا تستطيع المرأة أن تأخذ من حليها قدراً، بل يلف الجسم بقماش بخس الثمن ثم يوارى في التراب (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى). توفي ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان – رضي الله عنه – في السنة الخامسة والثلاثون هجرية؛ بمعنى أن حياة البرزخ امتدت حتى اليوم لأكثر من 1400 سنة، وبالتالي فمن المنطق أن يكون لها أهمية تفوق الحياة التي سبقتها (الحياة الدنيا)، التي غالباً لا يتجاوز عمر الإنسان فيها مئة عام.
الحياة الآخرة هي نهاية المطاف وهي الدوام وهي الخالدة، والناس فيها مختلفون في مقياس يمتد من السعادة إلى الشقاء، حسب ما زرعه كل فرد في الحياة الثانية (الحياة الدنيا). مرة أخرى لا يستطيع أي إنسان أن يتعرف على موقعه حسب ذلك المقياس. فالمعادلة صعبة، إذ هناك غفلة ولكن يقابلها رجاء، وهناك زلة ولكن يقابلها دعاء. العقل والنقل يؤكدان أنها الأهم على الاطلاق، وبالتالي فكل المزروعات وغالبية المحاصيل تجنى في الحياة الآخرة. هذا مسلسل الحياة التي يأتي الإنسان فيها فرداً ثم يغادر فرداً، يبدأ مشواره عارياً وينتهي عارياً.
رحم الله تماضر بنت الشيخ عبدالعزيز بن سليمان المنيع، وغفر لها، وخلف على ابنتها بالصلاح، وجمعنا بهم ووالدينا وأموات المسلمين في جنات النعيم. إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
* جامعة الإمارات العربية المتحدة
الترتيب بـ
الأحدث
الأقدم
الملائم
الجوهره عبدالله الحسيني
آمين يا رب اﻟلہّ يغفر لها ويرحمها اﻟلہّ يخلف عليها شبابها في الجنه وجعل قبرها روضة من رياض الجنه والله يجمعنا بها ووالدي وجميع المسلمين في جنات النعيم وينزل على احبابها الصبر والسلوان وانا لله وانا اليه راجعون
13-08-2020 04:34 مساءً
الرد على زائر