• ×

08:05 صباحًا , الأحد 22 ديسمبر 2024

عبدالعزيز عبدالله البريثن
بواسطة  عبدالعزيز عبدالله البريثن

متلازمة د

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
.
تظهر المتلازمات (حالة التناذر) عادة في شكل حالات شاذة ومجهولة المصدر، ثم تصبح بمثابة الألغاز المحيرة للأطباء أو العلماء. لذا تسمى المتلازمة في أغلب الأحوال باسم المتخصص أو الطبيب المكتشف الأول الذي كتب عنها أو دوّن أعراضها أو سماتها أو خصائصها، إلى أن تتوالى الكتابات، ثم تتواتر الدراسات محاولة تشخيصها والكشف عن مسبباتها أو دواعي حدوثها.

وعلى الرغم من أن أغلب المتلازمات طبية بطبيعتها، إلا أن هناك متلازمات ظهرت في حقول وثيقة الصلة بالطب، كعلم النفس الذي سجل بعض المتلازمات التي بدت في شكل اضطرابات نفسية، تظهر وتتفشى بفعل تغير ايقاع الحياة والأحداث المصاحبة لذلك.

الثابت أن " متلازمة د " ليست طبية ولا نفسية، وإنما اجتماعية بحته، ظهرت بداية كحالات شاذة في المنطقة العربية خلال عقود ماضية، ثم أخذت في التفشي المكتسح لمنطقة الجزيرة العربية كما تبين صورة الخارطة التالية:

image

وتعني " متلازمة د " اصابة الشخص بعظمة الحرف دال، الذي يشير إلى درجة الدكتوراة. وبالتالي يمكن القول أن المتلازمة تفشت أكثر في منطقة الجزيرة العربية تزامناً مع تدفق مخرجات برنامج الابتعاث الخارجي الذي انطلق عام 2005م، حيث منح فرصاً وافرة لمواصلة التعليم والحصول على الدرجات العلمية العالية، بما فيها الدكتوراة. والرابط الحقيقي لهذا النوع الغريب من المتلازمة، يبدو في شكل علاقة "طردية" بين ارتفاع مركب النقص السالب، وبين الدكتوراة كأعلى درجة علمية ظهرت للوجود منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. فمركب النقص الذي تظهر ملامحه عادة في مرحلة المراهقة المتأخرة ينهش في مكونات النفس، مما يجعل السعي مضاعفاً في مضمار الحصول على الدال حتى ولو بطرق مشبوهة أو غير مشروعة، ليكون اللقب وانتظار سماع رنينه الوهمي محاولة بائسة لمقاومة المركب الذي يسكن في أعماق النفس، ويؤثر سلباً على جوهر الروح، حيث يحدث ما يشبه الارتباك في ترتيب الأولويات.

لقد ظهرت تراجيديا الشهادات المزورة مصورة المحاولة المضنية لكبت ذلك المركب اللعين. كما تظهر بعض لوحات المنازل المدون عليها حرف الدال مؤكدة حقيقة تلك المتلازمة. كل هذه وغيرها تشكل أمثلة من محاولات إشباع تلك النواقص، على أن وهم الكمال تم بلوغه بفضل تلك الدرجة العلمية. أما الحالمين بالمناصب والموعودين بها فحدث ولا حرج عن مساعيهم السامجة في ذلك المسار المقزز.

ومن الغرائب أن المتخرجين من جامعات العالم الغربي، تجاهلوا عدم استعمال الغرب لهذه الألقاب في حياتهم العامة اطلاقاً. جُل أساتذة الجامعات في أمريكا وبريطانيا وأستراليا وكندا لا يستخدمون لقب (دكتور)، ولا حتى مع طلابهم داخل حرم الجامعة، فما بالك بمن يأتي لمناسبة اجتماعية مع أقاربه أو أصدقاءه ويتحرى سماع لقب "دكتور". هذا ما يتعلق بطبيعة اللقب، أما في المجال الوظيفي فحينما يتقدم حامل الدكتوراة في البلاد الغربية لوظيفة ليست ذات علاقة بالمجال البحثي فعادة يتم رفضه معللين: "مؤهل فوق الحاجة".

ومن الانعكاسات السلبية للمتلازمة تلك الخدعة (الوهم) الذي يعيشه الفرد صاحب اللقب ومن حوله من أفراد أسرته. فمن بين الآثار السلبية للخدعة نزعة الوهم بصواب الرأي، وكأن الصواب ملازم لحرف الدال. الامام الشافعي – رحمه الله – ثالث الأئمة الأربعة، ومؤسس علم أصول الفقه، وهو أيضاً إمامٌ في علم التفسير وعلم الحديث، بجانب أنه شاعرٌ فصيحٌ نابغٌ، ومع هذا كان يؤثر عنه قوله: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيُ غيري خطأٌ يحتمل الصواب".

المحيط الاجتماعي لم يسلم أيضاً من أذية المتلازمة، فالأم التي تشّرف أحد المناسبات الاجتماعية الودية، لا تأبه في أن تلفت أنظار الحضور تجاه عبقرية أبنتها المصون (الدكتورة)، التي كان له جهوداً عظيمة في تجاوز عقبات الطريق للوصول إلى العزيمة في الوقت المحدد. فإطراء الأم لأبنتها (فريدة الزمان) بالتأكيد سوف يصيب الحاضرات بغثيان قد لا تجدي معه مضادات الحموضة، ولا حتى تجرع كأس ساخن من الكمون. أما حينما يتقلد صاحب المتلازمة منصباُ قيادياً فلا رهان أن المجتمع بأسره سوف يكون ضحية.

المصابون بداء المتلازمة من الأرجح أن تنحصر ردود أفعالهم إزاء حقيقة المتلازمة في واحد من أنماط ثلاثة: (1) وضع الحالة على الصامت، أو كما يقول الأخوة المصريين: "اعمل روحك ميت" (2) الاعتراض والتبرير على أنهم أفنوا حياتهم في التعلم وبالتالي فهذا أقل ما يمكن أن يحصلوا عليه (3) رمي الكرة في ملعب المجتمع على أن الآخرين هم الساعون للتضخيم والواقفون وراء حدوث المتلازمة.

الآمال معقودة على تبني دراسات علمية تكون موجهة للكشف عن حقيقة هذه المتلازمة، فالحاجة أصبحت ماسة لمعرفة الجوانب الخفية منها، بما يساعد على الحد من آثارها، والطرق السليمة للتعامل معها أو معالجتها. أخذاً بعين الاعتبار أن التجاهل علاج كل داء ليس له دواء.

في الختام لابد من استحضار مقولة الشافعي – رحمه الله – لأن جميع ما ذكر ما هو إلا رأي خاص يحتمل الخطأ، مثلما أنه يحتمل الصواب.


*
كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية
جامعة الإمارات العربية المتحدة

 1  0  1.5K


الترتيب بـ

الأحدث

الأقدم

الملائم

  • احمد منقا

    ولو يبوعبدالله الدال قبل الاسم رزه وفخامة ! وسمها ماتشاء متلازمة او مرض او غيرة .

    12-12-2019 12:39 مساءً

    الرد على زائر

جديد المقالات

بواسطة : الإعلامي الدكتور : فلاح الجوفان

. تجلت الإنسانية في أبهى صورها ، عندما تعرض "...


بواسطة : عبدالعزيز عبدالله البريثن

. آه .. ويح من فقد أمه، ولم يقبلها في ضحاه، أو...