.
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير المرسلين نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين .
( ١ )
قبل أن أبدأ بإيراد بعض المواقف ، يحسُن بنا أن نتعرّف على أسرة آل مبارك ، و نقف على بعض تاريخها و أبرز رجالها. وسبب البدء سأبيّنه في ثنايا هذه الأسطر .
• فجده حــمــد المبارك أمير حريملاء لقرابة نصف قرن و مستشار الإمامين تركي بن عبدالله بن محمد ال سعود، و فيصل بن تركي:
وهو الأمير حمد بن مبارك بن عبدالرحمن بن حسن بن عبدالرحمن بن عبدلله بن حسن بن راشــد آل حمد الرباعي البشري العنزي رحمه الله تعالى ، أحد أفراد دهره شجاعةً وعقلاً وحزماً.
تولَّى أمارة حريملاء ســنة 1234هـ .
وقد استطاع حمد المبارك رحمه الله خلال تلك الفترة تجنيب بلدته الكثير من الصراعات التي انتشرت في نجد خلال فترة الاضطراب السياسي التي تَلَت سقوط الدولة السعودية الأولى ، و قُبيل قيام الدولة السعودية الثانية على يد الإمام تركي بن عبدالله رحمه الله .
وقد كان الإمام تركي بن عبدالله بن محمد آل سعود يعتمد عليه و يُوكل له كثيراً من المهام ويثق برأيه و يُؤمن بشجاعته و قوته و دهائه .
(٢ )
وفي صيفِ عامِ 1278هـ زار المستشرق وليم جيفورد بلغريف حريملاء ، وقابلَ حمدَ المبارك ، و أُعجِب بِه أيَّما إعجاب ، مع أن بلغريف قد عُرف عنه نبرة التعالي الزائدة ، لا سِيَّما عند الكتابة عن المجتمعات العربية و الشرقية عموماً ، فقال عن حمد المبارك :
( ويحكم حريملاء "بطّاح" - بطّاح هو لقبٌ مشهور لحمد المبارك ، لقِّب به حمدٌ لِشدَّةِ حزمِه و صرامته ، و محافظته على أمن و استقرار بلدته حريملاء - يقول وليم : ( حمد المبارك ) ، ينتمي إلى عـائلةٍ عـريقةٍ غيورٌ على دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب مناصراً لها ، ولم يكن قاصراً من حيث التعليم السائد في منطقته ومجتمعه ، وقد كرَّس حياته لمؤازرة البيت السعودي ، وقد استقبلنا بالترحيب الشديد، وبادر بدعوتنا إلى منزله بداخل القلعة . وقد أكرمنا كعادته وأحسن إكرامنا ، ويضيف المسشرق وليم قائلا :
وقد كان مُضيّفُنا - حمد المبارك - وكيلاً للأمير عبدالله الفيصل ( ولي عهد الإمام فيصل بن تركي في ذلك الوقت ) وصديقاً خاصاً له ، وقد رافق الإمام عبدالله الفيصل في أكثر من ثلاثين غزوة ، وتكشف معظم القصص التي سردها شجاعة حمد الفائقــة ).
و في صبيحة اليوم التالي استأنفنا مسيرنا و معنا رجال "بطّاح" الذين كـلَّفهم بمرافقتنا إلى آخر حدود منطقته )
( ٣ )
• ومن أجداده العالم الجليل والمحقق المدقق الشيخ / محمد بن فيصل بن حمد بن مبارك، ولد في حريملاء سنة ١٢٧٤ للهجرة .
قال الشيخ / محمد بن عثمان القاضي: (غزا مع الملك عبدالعزيز تسع غزوات هو فيها مستشاره وقارئه وإمامه ومفتي الجيش، وكانت له حظوةٌ لدى الملك عبدالعزيز رحمه الله، وكان ناصحاً له ، وكان لا يفارقه حضراً ولا سفراً مُدة مكثه في الرياض، وكان جامعاً بين العلوم الدينية والسياسية ورجاحة العقل .
وكان الشيخ محمد رحمه الله حسن التعليم، وكانت جلساته صباحاً وبعد الظهر وبعد المغرب، فحين جلس للطلبة التف إلى حلقته طلبةٌ كثيرون لا حصر لعددهم، ووفد الطلبة إليه من كل صوب للانتفاع من علومه الجمّة، وظل إماماً وخطيباً حوالي ربع قرن.
وقد تخرَّج من حلقته طلبة كثر، وقد ولّي كثيرٌ منهم القضاء، من أبرزهم:
١- الشيخ العلامة / فيصل بن عبدالعزيز المبارك قاضي الجوف رحمه الله صاحب الأوائل النجدية إذ هو أول عالم نجدي فسر القرآن كاملاً، وأول من شرح الرحبية والواسطية والآجرومية والملحة والزاد والبلوغ والعمدة وغيرها. وقد كان علماء نجد منشغلين بالفتيا والقضاء والتعليم ولذا قلَّت مصنفاتهم، أما الشيخ فيصل فقد جمع من الخير أطرافه إذ نجد فيه عدة أشخاص في شخص واحد، فهو القاضي والمفتي والواعظ والإمام والخطيب والمعلم والمجاهد والمستشار لأولي الأمر والمصنف في الفنون العديدة رحمه الله.
بعثه الملك عبدالعزيز واعظاً ومعلّماً في بلاد تهامة والحجاز . ثم تولّى قضاء بعض المدن مبتدأ بالصبيخة قرب تثليث سنة 1341هـ ثم قاضياً في قرية العليا سنة 1347هـ ثم قاضياً في تربة سنة 1349هـ، ثم قاضياً في أبها سنة 1351هـ ثم في القنفذة سنة 1353هـ ثم في الخرمة سنة 1354هـ. ثم في رنية سنة 1355هـ، ثم صار قاضياً في ضرماء سنة 1361هـ وانتهى به المطاف في الجوف سنة 1362هـ فبنى الجامع الكبير المشهور باسمه الآن، قال الأمير عبدالرحمن السديري عن هذا المسجد في كتابه (الجوف): (أنشأه على أحدث طراز في وقته من اللبن والطين وأخشاب الأثل وسعف النخيل، وأنشأ فيه أروقة صيفية وأخرى شتوية (خلوة) ومئذنتين وغرفتين لإيواء الفقراء من طلبة العلم) وله العديد من المؤلفات و الكتب التي نفع الله بها ولايزال طلاب العلم ينهلون منها الخير الكثير .
( ٤ )
ومن تلاميذ الشيخ / محمد بن فيصل :
٢- ابنه الشيخ / سعد بن محمد بن فيصل قاضي فيي عدت بلدان منها القرية العليا ، و وادي الدواسر ثم الوشم ، وهو جد أبي فارس رحمهم الله جميعا .
٣- وابنه الشيخ / فيصل بن محمد بن فيصل قاضي الشارقة ورئيس هيئة الحسبة بجدة رحمه الله .
• أما والد فقيدنا أبي فارس فهو الشيخ / مبارك بن سعد بن محمد بن فيصل المبارك ، والده قاضي الوشم كما أسلفت آنفاً ، الكريم ابن الكرام والقائد التربوي المحنّك ، و الكفاءة الإدارية الفذّة ، التي تميّز بها طوال مايزيد عن أربعين سنة مديراً لتعليم البنات بشقراء وكان هو عرّاب تعليم البنات في المحافظة ، عاصرها منذ أن كانت مندوبية ، إلى أن أصبحت إدارة تعليم ، تتبع لرئاسة تعليم البنات في ذلك الوقت ، وشهدت في وقته تنظيماً إدارياً لم يعهد له مثيل ، و مباني مدرسية صمّمت على أحدث طراز ، ونفّذت بأعلى جودة ، وأشرف بنفسه على تنفيذها ، ولاتزال شاهدةً على جهودة ، و كان حريصاً على التطوير ، والتوسّع في التعليم ، و شهد تعليم البنات في وقته نجاحاً لم يُعرف له مثيل ، وافتتاحاً للمدارس ، خدم سكان المحافظة والقرى التابعة لها والمحافظات المجاورة ، ويكفي أن نذكر كليات التربية التي افتتحت إبّان إدارته لإدارة تعليم البنات و التي تمنح درجة البكالوريوس ، وكانت قبل ذلك كلية متوسطة تمنح درجة الدبلوم .
متّعه الله بالعافية ، و أمدّ في عمره على طاعته ، وحفظه وبارك فيه .
ومن أبنائه الكرام الشيخ / أحمد قاضي محكمة خميس مشيط ثم الدوادمي ثم محكمة شقراء ، و هو الآن قاضي الإستئناف بوزارة العدل ، وهو امتداد لأسلافه في القضاء والفتيا ، وهو عالمٌ جليل ، حفظ الله الشيخ أحمد ونفع به ، وبارك فيه .
ومن أبناء الشيخ / مبارك حفظه الله فقيدنا الغالي ، المربّي الفاضل ، والقائد التربوي المحنّك الأستاذ / فيصل عُرف و اشتهر بكنيته أبي فارس ، صاحب الخُلقِ الجمّ ، و الروح المتفائلة ، و الوجه البشوش ، والابتسامة الفريدة ، طلق المحيّا ، ضاحك السِن ، طيّب القلب ، خفيف النفس ، ليّن الجانب ، سمح الخاطر ، حسن المعشر . كريماً نديّاً سخيّا خلّوقاً متواضعاً ، باراً بوالديه ، محباً لخدمة الناس و إعانتهم ، ينطبق عليه قول زهير بن أبي سُلمى :
تراهُ إذا ما جئْتَه مُتَهَلِّلا *** كأنَّك تُعطيه الذي أنتَ سائلُه
( ٥ )
⁃ و سأورد هنا بعضاً من المواقف التي وقفت عليها بنفسي بحكم عملي مشرفاً للتربية الإسلامية، ومدرباً مركزياً لبعض المشاريع الوزارية ، وصديقاً للعائلة وقبل أن أبدأ بذكر المواقف أحب أن أشير إلى أن أبا فارس رحمه الله بلغ من الطيب ومكارم الأخلاق مكاناً عالياً وليس ذلك بغريبٍ على سليل أُسْرةٍ خلّد التاريخ سيرتها وتناقل الرواة مواقفها، فهو من أُسْرة علمٍ وفضلٍ ودين و شجاعة كما أوردت سابقاً -وهذا سبب سردي لسيرة أبائه - وحُقَ لمثله أن يقول كما قال الفرزدق :
أولَئِكَ آبائي فَجِئني بِمِثلِهِم
إِذا جَمَعَتنا يا جَريرُ المَجامِعُ
نَمَوني فَأَشرَفتُ العَلايَةَ فَوقَكُم
بُحورٍ وَمِنّا حامِلونَ وَدافِعُ
بِهِم أَعتَلي ماحَمَّلَتني مُجاشِعٌ
وَأَصرَعُ أَقراني الَّذينَ أُصارِعُ
الموقف الأول:
أثناء زيارتي الإشرافية لمدرسة ابتدائية الوقف وهو يُعدُّ من أشهر من توّلى قيادتها منذ تأسيسها ، وبعد نهاية برنامج الإصطفاف الصباحي ، والذي كان طيلة البرنامج مبتسماً لكل من قابله من المعلمين والطلاب ابتسامةً تشرح الخاطر ، وتَسُر الناظر ، وتزيل هم المهموم ، يمازح طلابه ، ويتأكد بنفسه من تفاعلهم مع التدريب الرياضي في برنامج الإصطفاف الصباحي، توجهنا إلى مكتبه وكعادته رحمه الله يعاود الترحيب ويغمرك بلطفه، ويأسِرُك بابتسامته، ويقدم لك القهوة والشاي بيده بكل ترحابٍ وطيب نفس ، وملّزماً عليك بتناول الفنجال الثاني والثالث ، فلا تسألني عن أدبه و خُلقه ، وحّسِن حديثه و منطقه ، وعذوبة ألفاظه ، وروعة إنصاته ، ومحبّته لنقل الخبرة و المعلومة في شتى مجالات الحياة ، تحدثنا عن هموم التعليم وأنظمته فقال الكلام الموجز الذي آمن به طيلة عمله في الميدان التربوي فقال: ( سأطبّق كل ما كان فيه مصلحة للطالب ولو كان في ذلك تعبٌ ومشقة أهم شي هالطلاب) وهنا أوضحتُ له محوراً ورد في منظومة الأداء الإشرافي والمدرسي وهو محور القيم والسلوك، قال: ( ايه ركزوا على هذا، أولادنا يحتاجون من يغرس فيهم القيم الحسنة).
قلت بيني وبين نفسي أنت مثال لصاحب القيم و الأخلاق والمبادئ الفاضلة . يشهد على ذلك كل من عرفه و تعامل معه .
( ٦ )
وفي ذلك اليوم دخل أحد الطلاب علينا في المكتب وقد نسي وجبة الإفطار فابتسم أبو فارس وقال مهوّناً على الطالب مصابه فطورك عليّ اليوم ، فقال الطالب مبتسماً ابتسامة تقدير وحبّ : شكراً ياأستاذ لكن اسمح لي أتصل على والدي يحضر قيمة الإفطار فقال أبوفارس رحمه الله ( أنا أبوك وش تبي بعد) وضحكنا جميعاً. وأخذ الطالب المبلغ وقبّل رأس أبي فارس فردّ رحمه الله قائلاً الله يوفقك ويصلحك. بعد هذا الموقف عرفتُ سرّ حب الطلاب لأبي فارس ، وقربهم منه و تعلّقهم به ، باختصار هو الأب لجميع الطلاب بل غمر لطفه جميع العاملين معه و الزائرين لمدرسته .
الموقف الثاني:
في احدى زياراتي لمدرسته ، دخل علينا أحد الموظفين الإداريين العاملين في المدرسه وكان من أصحاب الهمم العالية ( أصم) ومعه خطاب يريد من أبي فارس شرح المطلوب ويطلب التوجيهات ، فأوصل أبو فارس توجيهاته بكل رحابةِ صدرٍ وحُسن أسلوب وطول بال داعماً شرحه بحركاتٍ تترجم الكلام ممزوجةٍ بمزحٍ ودعابة جعلت الموظف يطير فرحاً ويلتهب حماساً للعمل وكان مابين كل جملةٍ وأخرى يلتفتُ عليَّ رحمه الله قائلاً: ( يا أبا خالد اذا شفت مثل هؤلاء انبسط وأرتاح وأعلم أن الدنيا لازالت بخير فمع ظروفهم الصحية إلا أنهم لا تهبط همتهم أو عزيمتهم ) وأقول من يعمل معه - رحمه الله - كيف لا ترتفع همته ويعلو طموحه وتزداد دافعيته للعمل والإنجاز.
الموقف الثالث:
قبل أربع سنوات نفّذتُ برنامجاً تدريبياً لقادة المدارس وكان رحمه الله ممن تشرفتُ بتدريبه وكان مدة البرنامج ثلاتة أيام، وفي نهاية كل يوم كان رحمه الله يسلّم علي ويودعني قائلاً: ماشاء الله تبارك الله أنت مبدع يقولها مشجعاً ومحفّزاً ورافعاً للمعنويات ، فكنتُ أنسى جميع التعب ، يقول هذه الكلمات وتقاسيم وجه رحمه الله لوحدها كافيةً للتشجيع ، والإبتسامة تملئ محيّاه.
وفي نهاية البرنامج وفي آخر يومٍ قال لي كلمة لازلتُ أذوق حلاوتها وأجد أثرها قال: ( أنت يا أبا خالد بختصار مدرب محترف تملك علميّة ممتازة، وروحاً طيّبة، وجاذبية اللي يسمونها كاريزما) قالها مبتسماً ويده مازلت ممسكةً بيدي ثم قال لي مشجعاً( من أفضل البرامج التدريبيةالتي حضرتها وأنت من أفضل المدربين الذين دربونا وقبل هذا كله أنني أُحبّك ) قلت أحبك الله ورفع قدرك ، بعد هذا الموقف علمتُ بأن من صفات القائد الناجح قدرته على التشجيع والتّحفيز المعنوي وكانت سمةً بارزةً فيه رحمه الله حتى أني قلتُ له أنت تستحق شهادة الدكتوراه في رفع المعنويات فضحك رحمه الله وقال هذا الواقع يا أبا خالد ولم أقل إلا ما شاهدت. ودّعته وأنا قد نسيتُ كل التعب والجهد وكانت كلماته الصادقة دافعاً لي بعد الله لأن أقدم الأفضل.
( ٧ )
الموقف الرابع :
وهذا امتداد للموقف السابق ومشابهٌ له ، نقل لي هذا الموقف مشرف القيادة المدرسية الدكتور سليمان الشتوي أبو أنس يقول: أحضرنا مدرباً من تعليم الرياض لتدريب القادة وتطويرهم وبعد نهاية البرنامج التدريبي طلب أبو فارس رقم جوال المدرب يقول أبو أنس فأعطيته إيّاه وبعد مدّة اتصلت بالمدرب لموضوعٍ من المواضيع فقال المدرب إن الأستاذ فيصل المبارك اتصل بي وشكرني على ماقدمتُ في البرنامج التدريبي.
حينما ذكر الدكتور سليمان هذا الموقف لي قلت ليس ذلك بغريبٍ على أبي فارس فهذه أخلاقه وهذه سجاياه وطيبته وحفظه للمعروف وإجادته للتحفيز والتشجيع إنه رحمه الله باختصار (رجلٌ مُلهِم )
الموقف الخامس:
كنتُ معه و مع أخوته و أبناء أخيه و بعض الأصدقاء في مخيم المبارك العامر والمُزدان بالكرم والطيب ، فقال أحد الحاضرين وكان مستغرباً بسبب أني أصغر سناً من أبي فارس: ( يعني هالحين أبو خالد يشرف عليك يا أبو فارس)؟! قالها مستغرباً ، فقال أبو فارس بلا تردد ولا تفكير وبأسلوبٍ تأكيدي : نعم -ويَهُزُّ رأسه - يُشرف عليّ ويوجّهني ويدربنا ) فقلت : الله المستعان بل أنا أتعلم منك يا أبا فارس فقال رحمه الله جملته المعتادة والبسمة المشرقة التي أصبحت جزءً من تقاسيم وجهه ( قال: وش دعوى... الله يسلمك يا ابو خالد ويوفقك) علمت بعدها أن من صفات القائد الناجح التواضع وعدم الغرور والإعجاب بالنفس والإعتراف بمكانة الناس وفضلهم وعدم غمطهم والتقليل منهم.
( ٨ )
الموقف السادس:
هذا الموقف هو خارج المدرسة لنعلم بأن الطيب ومكارم الأخلاق ليست تتجزء أو تكون في مكانٍ دون آخر ، فقبل تقريباً ثلاث سنينٍ كنتُ في أحد المطاعم والتقيتُ به رحمه الله وبعد السلام عليه والسؤال عن حاله وذلك الوجه المبتسم كعادته سبقنا للطلب رجلٌ تبدو عليه أثر الحاجة فطلب وجبة عشاء له ولم يكن معه مبلغاً للسداد وطلب من المحاسب الصبر عليه فوافق المحاسب بعد إلحاح ومحاولات . توقف أبو فارس عن الحديث معي وتغيّر وجهه وانتظر حتى انصرف الرجل لاستلام طلبه وقال أبو فارس للمحاسب : خذ هذا المبلغ لطلبي ولطلب ذلك الرجل( علماً أنه لا يعرفه) قلت له: جزاك الله خير يا أبو فارس ، فقال أبو فارس : بل جزى الله خيراً أصحاب الحاجات فتحوا لنا طريقاً للخير.
وأقول أنا ليس ذلك بغريب على أمثال أبي فارس ولكني سقتُ هذا الموقف لأبيّن أن حُبّ الخير والإحسان إلى الناس يجري في دمه ونحسبه ولا نزكّي على الله أحداً أنه لا يتكلّفها بل تأتي تلقائياً وردت فعلٍ مباشرة سيجدها عند ربه وفي ميزان حسناته بإذن الله ( رحمك الله ما أطيب قلبك).
وأختم القول بأنه كان مُحباً للخير ولأهل الخير ويُحب سماع أخبار انتشار الخير في الناس ، قائلاً بعد كل خبر: الحمد لله الناس فيها خير .
وفاته رحمه الله :
عرفت خبر وفاته رحمه الله هو وزوجته ، فجر يوم الأحد الموافق ١٤٤٠/٧/٣ للهجرة ، وتفيد الرسالة أن الصلاة عليه هو وزوجته ستكون بعد صلاة العصر لذلك اليوم. ولن أصف حالي حين علمت بالخبر ، فإني مهما وصفت وقع الخبر عليّ ، لن أستطيع و صفه ، كحال كثيرٍ من محبيه رحمه الله ، فقد آلمني الخبر ، ونزل كالصاعقة على قلبي ، وأجرى الدمع حُزنا على فراقه ، و فُجعنا بفقد رجل ندُر مثيله في زماننا اليوم ، رحل رجل التقدير و الإحترام ، و رجل الوفاء و الكرم ، رحل الطيّب المبتسم ، رحل مُحبّ الخير و أهل الخير ، رحل من كان يسعى لإرضاء جلسائه لن أنسى حين قال مادحاً إناءً قدّمت فيه الفاكهة ( هذا يا أبو خالد لازم نصوّره ما ينتفوّت ) وصوّرها بجواله ، أعلم أنه قد ر أى أجمل من هذا التقديم ولكن هذه من أساليب إدخال السرور على قلب جلسائه ، رحمه الله و نسأل الله كما أنه كان حريصاً على إدخال السرور على الناس أن يجعله آمناً مسروراً .
( ٩ )
و إنّ ممايُهوّن علينا المُصاب شهادة الناس له بالخير ، و وفاتهم رحمهم الله كانت في سفر لأجل صلةٍ و برّ ، و لا نقول إلا مايرضي ربنا لله ما أخذ وله ما أبقى ، وكل شيء عنده بأجلٍ مسمى ، إنا لله و إنا له راجعون ، ولا نقول و داعاً بل نقول إلى لقاءٍ بإذن الله في جنات عدنٍ الجار أحمد صلى الله عليه وسلم و الرحمن بانيها ، نسأل الله ذلك نحن و إياك ومن أحببت يا أبا فارس ، ووالدينا و من أحبّنا في الله و من أحببناه في الله ومن أمّن على دعائنا و جميع المسلمين اللهم آمين .
و كنت من ضمن من ودّعه في مغسلة الأموات ، وتشرّفت بتقبيل رأسه مودّعاً رجلاً قلّ مثيله ، فلا تسأل عن جماله و حُسن منظره ، ولايزال مع وفاته رحمه الله مُحتفظاً بسماحة و جهه ، وجمال محيّاه ، وتقاسيم ابتسامات كانت رفيقة وجهه في حياته وبعد مماته فقلت لأخويه الفاضلين الأستاذين / سعد و حمد: إن كنّا نبكيه لفقدنا له ، فقد ذهب إلى من هو أرحم به منّا . وكان ممن يسّر علي الدخول للمغسلة أبناء أخيه وهما الشيخ / سعد و الأستاذ / فيصل جزاهم الله كل خير ووفقهم و أحسن عزائهم وعزاءنا جميعا . وبعد هذه المواقف التي أوردتها من باب ذكر محاسنه رحمه الله والإستفادة منها وأخذ الدروس والفوائد من سيرته رحمه الله .
ورسالة لفارس و أخوته شفاهم الله و أصلحهم : أقول لكم الحق بأن تفخروا بأبيكم ، فقد كان مثالا يُحتذى ، وشخصية قلّ مثيلها ، ولكم أن تفخروا بجدكم الشيخ مبارك ، و أعمامكم ، و أخوالكم ، وكلنا معكم بعد الله . حفظكم الله و أصلحكم ، و جعلكم خير خلف لخير سلف .
( ١٠ )
وقبل أن أختم هذه الأحرف التي أجزم أنها غيضٌ من فيض ، ولكن حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق بدأتها بذكر أباء الفقيد رحمهم الله وأن الفقيد هو إمتداد لطيبهم ، وذكرت بعض مواقفه لنحتذي به ، ولتكون خصاله مثالاً لمن أراد أن يذكر عند ربه و بين الخلائق بالخير وهذه الأبيات أنقلها لتعبّر عما في نفسي ومشاعري نحو رجل لن أنساه ما حييت .
لقد أبكرت يا رجل الرجال
وأسرجت المنون بلا سؤال
فأججت الأسى في كل قلب
وجارحة وما أبقيت سالي
نعى الناعي فروّعنا جميعاً
وجاز الجرح حد الاحتمال
خسرناالحِلْم والخُلق المزكّى
خسرنا هيبةالرجل المثالي
فلم أتوقع المأساة أصلاً
ولا خطرت ولا جالت ببالي
غيابك أيها الغالي كان مُرّاً
أضاع النور في حلك الليالي
إذا سلب الردى منا أديباً
فَذكرُه سوف يحيا في الخيال
سيحيا في قلوب الناس فِكراً
سيبقى ذِكره بين الرجال
سيبقى في رحاب الخُلدنِسراً
يحاكي مجده قمم الجبال
فيا أم الفقيد رُزِقتِ صبراً
فإن الصبر من شيم الكمال
تُعزِّينا بأن خَلَّفت نسلاً
كريم الأصل من أرقى الرجال
تُعزِّينا بأن خلفت كنزاً
من الأخلاق من أسمى الخصال
أعزّي أباه كما أعزي
أشقاء الفقيد مع العيال
رعى الله الفقيد بكل خير
وأسكنه فسيحات الظلال
ولكل محزونٍ ومن فقد حبيباً و عزيزا نقول الصبر الصبر ،فهنيئًا لمن كتبهم الله من الصابرين {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة ]
اسأل الله الغفور الرحيم أن يغفر له ويرحمه ويعلي درجته هو وزوجته وابنته في علّيين ، اللهم اغفر لهم وارحمهم اللهم افسح لهم في قبورهم واجعلها روضةً من رياض الجنة ، اللهم حرّم وجوههم على النار ووالدي وجميع موتى المسلمين ياحي ياقيوم.
وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين من قال الله فيه ( و إنك لعلى خُلُقٍ عظيم ) وعلى آله الطيبين الطاهرين ، و على أصحابه الغُرِ الميامين ، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين
جمعه وكتبه
برجس بن خالد البقمي
مشرف التربية الإسلامية
بإدارة التعليم في محافظة شقراء
٢٦ / ٧ /١٤٤٠ للهجرة
الترتيب بـ
الأحدث
الأقدم
الملائم
فهد محمد المنيعي
ماشاء الله تبارك الله
سيرة عطرة تحكي مسيرة أسرة نبيلة قدمت ولازالت تقدم وهي بحق فخر لكل من يعرفها
اللهم اغفر لهم وارحمهم وارزقهم الفردوس الأعلى ووالدينا وجميع المسلمين
وشكراً لك اخي الغالي برجس وجزاك الله خير
18-04-2019 11:59 صباحًا
الرد على زائر
احمد محمد الثاقب
جزاك الله خيراً أستاذ / برجس
انت من رجال الوفاء ،، وأبوفارس رحمه الله لايمكن حصر مآثره كما ذكرت ..
جمعنا الله به في جنات الفردوس ووالدينا ووالديكم ، آمين يارب
18-04-2019 12:33 مساءً
الرد على زائر
ابو تالا الدريعي
رحم الله فيصل مبارك رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته
شكراً لك للاستاذ برجس البقمي
18-04-2019 01:12 مساءً
الرد على زائر
عابر للفكر
رحمه الله كان معلما وابا في نفس الوقت تعلمته من الكثير ودلني على طريق الصواب
18-04-2019 02:23 مساءً
الرد على زائر