.
منذ العصر الجاهلي مارس العرب العديد من مظاهر العلاقات العامة والدبلوماسية وذلك بحكم طبيعة الظروف المختلفة المحيطة بهم والتي أسهمت إلى التفاعل في إيجاد علاقات تعاون سلمي سواء على المستوى الداخلي بين القبائل العربية الأخرى أو الخارجي مع الشعوب الأخرى وإقامة علاقات وصداقات معها.
وقد أسهمت الحضارة العربية و الاسلامية بشكل واضح ومهم في تطور العلاقات العامة والدبلوماسية ، وجاء القران الكريم وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم وما فيها من أقوال وأفعال وتقريرات تطبيقاً لمفاهيم العلاقات العامة وممارسة الدبلوماسية بمفهومها الحديث وتطورت خلال فترة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بالطابع التوجيهي والإرشادي.
فالعرب منذ الجاهلية أقامة سفارات في الأقاليم المجاورة وأخذت العلاقات العامة والدبلوماسية مظهراً جديداً ومختلفاً في عهد الرسول صلي الله عليه وسلم ، فالسفارات في العهد الجاهلي مبنية على أساس (تجاري) كهدف رئيسي ، أما في عهد الرسول صلي الله عليه وسلم كان هدفها الدعوة إلى نشر رسالته ونشر الدين من خلال ارسال الكتب (الرسائل) وإيفاد المبعوثين من الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين إلى القبائل العربية المختلفة وذلك لأجل التعريف بالإسلام والحث على الدخول فيه.
فقد كانت كتابات الرسول صلي الله عليه وسلم إلى ملوك الفرس والروم والحكام في مصر والحبشة إضافة إلى عقد المؤتمرات لشرح تعاليم الإسلام شكلاً من أشكال العلاقات العامة والدبلوماسية الجديدة ، وقد أرسى الرسول صلي الله عليه وسلم فكرة الحصانة خصوصاً حصانة (المبعوث أو الموفد) بقوله صلي الله عليه وسلم لمبعوث مسيلمة الكذاب: (والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما) في إشارة واضحة للحصانة الكاملة التي يتمتع بها المبعوث أياً كان ، وبهذا يتضح أن دين الإسلام دين دعوة وسلام وتصالح وقد أكد الإسلام على المسؤولية الإعلامية وجعل هذه الوظيفة الاعلامية لا تقل أهمية عن سائر الفرائض الاسلامية الاخرى كالصلاة والزكاة والصوم وحج بيت الله الحرام فكما قال الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم في حديث عظيم من حديث تميم الداري : (الدين النصيحة). قيل لمن يا رسول ؟ قال لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم في الصحيح.
فالمجتمع الإسلامي كغيره من المجتمعات الأخرى المحكومة بأخلاقيات وقيم وتقاليد توارثها منذ آلاف السنين (فالدين) أهم المرافد التي تغذي الأفراد بهذه الأخلاقيات ، فالأديان السماوية جميعها أكدت على ضرورة ارتباط الأخلاق بالدين وهذا ما أكده بعذ الفلاسفة على مختلف الأزمنة مثل الفيلسوف الألماني (يوهان غوتليب فيخته) الذي يعتبر واحد من أبرز مؤسسي الحركة الفلسفية المعروفة بالمثالية الألمانية أن الأخلاق من غير دين هو عبث ، وقال الفيلسوف الهندي (مهاتما غاندي) السياسي البارز والزعيم الروحي للهند خلال حركة استقلال الهند بأن مكارم الأخلاق والدين شيء واحد لا يقبل الانفصال ولا يفترق بعضهما عن بعض كالوحدة التي لا تتجزأ فشبه الدين كالروح للأخلاق وبعبارة أخرى (الدين يغذي الأخلاق وينميها وينعشها).
فقد كان اختيار السفراء والرسل في الإسلام يتم من خلال شروط ومعايير معينة ليس لاعتبارات شخصية أو مزاجية منها : العلم في الشريعة ، والثقافة الواسعة ، ورجاحة العقل ، وحسن التصرف ، والفطنة ، والذكاء ، واللياقة بكل جوانبها ، إضافة إلى حسن المظهر الخارجي . ووفقاً لهذه الشروط يتم اختيار السفراء والرسل من ذلك على سبيل المثال سفارة العادل سيف الدين شقيق صلاح الدين الأيوبي إلى ريتشار (قلب الأسد) ملك انجلترا بهدف التفاوض معه لعقد صلح بينهم ، وأيضاً سفارة القاضي بن واصل الحمودى في عهد السلطان بيبرس إلى الملك مانفرد النور ماندي في صقلية.
ومن أهم اسهامات الدبلوماسية العربية والإسلامية في التقاليد:
- أكدت الدبلوماسية العربية والإسلامية على مبدأ الحصانة الدبلوماسية وأعطت المبعوث أو الموفد حصانة شبه مطلقة.
- أضافت الدبلوماسية العربية الإسلامية وظيفة جديدة خصوصاً في العصر العباسي وهي الوظيفة الثقافية ما يسمى اليوم (بالملحقية الثقافية).
- ربط الأخلاق بالسياسة في التعامل الدولي كنوع من أنواع قواعد ضبط السلوك وعدم الفصل بين السلوك العام والسلوك الخاص والتمسك بمعاني الأخلاق في علاقات الدولة مع غيرها من الدول الأخرى.
ومن نظام الأخلاق في الإسلام أن الالتزام بمقتضى الأخلاق مطلوب في الوسائل والغايات فلا يجوز الوصول إلى الغايات الشريفة بوسائل دنيئة فلا مكان في مفاهيم الأخلاق الإسلامية والدبلوماسية العربية للمبدأ الخبيث (الغاية تبرر الوسيلة) ويتأكد هذا في قول الله تعالى : (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير) الأنفال آية (7).
وهكذا يظهر من هذه التعاليم أن الإسلام جاء لينتقل بالبشر خطوات فسيحات إلى حياة مشرقة بالفضائل والآداب والأخلاق وأنه أعتبر المراحل المؤدية إلى هذا الهدف النبيل من صميم رسالته ، كما أن الإسلام أعتبر الإخلال بهذه الوسائل خروجاً عليه وابتعادا عنه فليست الأخلاق في الإسلام من الأشياء التي يمكن الاستغناء عنها بل هي أصول الحياة التي يرتضيها الدين ويحترم ذويها.
ولعلي من خلال ما تقدم حاولت ان الإجابة ولو بشكل يسير على التساؤل الذي يفرض نفسه ويعود بنا الى قضية فلسفية مطروحة في مجال العلوم السياسية عبر مختلف الأزمنة إذ يتصور البعض ان الوجه الآخر للسياسة هو الدبلوماسية ، وأن الدبلوماسية لا أخلاق وهي تعتمد على الكذب والمراوغة وذلك لما ساد في واقعنا الحالي من تأزّم الأخلاق وبخاصة عند كثير ممن يمارسون السياسة والدبلوماسية في العالم.
آملين لمؤسساتنا الدبلوماسية العربية الاقتداء بالأخلاقيات الفاضلة حتى يعم الخير والنفع وتسمو العزة والمجد لأوطاننا العربية.
* ماجستير وبكالوريوس في العلوم السياسي والعلاقات الدولية – وزارة الخارجية
الترتيب بـ
الأحدث
الأقدم
الملائم