• ×

08:12 صباحًا , الأحد 22 ديسمبر 2024

د. عبدالعزيز عبدالله البريثن
بواسطة  د. عبدالعزيز عبدالله البريثن

شقراء تتفوق على جزيرة أوكيناوا اليابانية

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط


تقع جزيرة أوكيناوا في أقصى محافظة جنوبية من اليابان، ولها حيز كبير في تاريخ الدولة، وتشتهر هذه الجزيرة بعمارتها الجميلة وطبيعتها الخلابة.
أما سر تفوق مدينة شقراء على الجزيرة بأكملها فهو أمر غريب ولم يكن في الحسبان. حيث أعتمد على التقديم وطريقة العرض، وهو ما يعبر عنه بالتسويق الجذاب. فحينما كنت أدرس اللغة الإنجليزية في معهد بولاية أوريجون الأمريكية طلبت منا مدرسة الكتابة في أحد المستويات المتقدمة، عمل دراسة موجزة عن المدينة التي قضى فيها كل طالب مرحلة الطفولة، وقد كنا وقتها تسعة طلاب. ولأنني كنت الطالب العربي الوحيد في ذلك المعهد فقد انتابني الخوف من الكتابة عن مدينتي، وترددت كثيراً في ذلك الصدد، حتى أني ذهبت إلى المعلمة في مكتبها غير مرة أطلب منها تغيير الموضوع، وأخر محاولات الاستجداء اقتراحي أن أكتب عن الرياض أو جدة، ولكن باءت كل محاولاتي بالفشل، حيث قالت المعلمة لابد أن تكتب عن المدينة التي عشت فيها طفولتك، وسيكون المعيار هو أسلوب الكتابة وطريقة العرض. وبعد يوم طويل من التفكير، وعلى مائدة طعام العشاء مع العائلة المضيفة أظهرت قلقلي من هذا الموضوع الذي لا أعرف ماذا أقول فيه؟ أبدت الأم رأيها من أنه لابد أن يكون هناك جوانب جميلة من كل مدينة، لاسيما حينما نحيد ما نعتقد أنه جميل في أماكن أخرى من العالم سواء في أوربا أو اليابان أو تايوان أو غيرها. أما رأي الأب فقد كان إيجابياً هو الأخر، حيث قال بأن الهدف من ذلك تعلم الكتابة الذاتية دون الرجوع للمصادر، ومحاولة نقل المستمع للواقع الموجود في ذهن الكاتب.
كانت مهلة الكتابة أسبوع، وقد أنقضى نصفها وأنا لم أعمل شيء على الاطلاق. وبعد محاولات الفشل في تغيير الموضوع اتخذت قرار بدء الكتابة. وخلال فترة التردد كان هناك نقاشات مستفيضة مع العائلة المضيفة، حيث انتهت تلك المداولات بنصيحة الأم بأن أركز على الأماكن "السياحية" في شقراء، ثم تحفيز الأب ومبادرته الطيبة بعمل بعض المساعدة في عملية التحرير بعد الفراغ من الكتابة.
في صباح اليوم التالي ذهبت إلى مكتبة الكلية قاصداً الهدوء والبدء في ترتيب الموضوع ونقاطه الفرعية. بدأت أطياف المدينة (شقراء) تجوب في ذهني وأنا أبحث عن الأماكن السياحية فيها. بدأت من المدخل الشرقي للمدينة وكتبت عن "ركية الجلال". ذكرت بأنها واحة جميلة تعشقها كل عين، ويهواها كل قلب، وكأنها ملتقى العشاق، حتى أن أحد الشعراء تغنى فيها قائلاً:
ياعل ركية الجلال تسقى عليها ينحدر شط الفراتِ

بعدها اتجهت نحو الجانب الغربي من المدينة وكتبت عن الريمة، وقلت بأنها منطقة جبلية فاتنة، وهي مقصد لكثير من العوائل والسياح، بل هي مقصد كل أسرة في اجازات نهاية الأسبوع، ويأتي لها الزوار من خارج المدينة، بل ومن العاصمة (الرياض) أيضاً. في موسم نزول الأمطار تبدو "الريمة" بحلة مختلفة، حيث تتدفق الشلالات من كل حدب وصوب، وتبرز جاذبية المكان بطريقة مختلفة.
ومما أتذكره في ذلك الموضوع أنني كتبت عن "شعيبة الحمير"، وعبرت عنها على أنها منتجع سياحي لا يتطلب دخوله تذاكر أو حجز مبكر عبر الإنترنت. ويوجد في شعيبة الحمير أنواع مختلفة من الحيوانات التي تعيش في تلك البيئة الطبيعية، بالإضافة إلى أشكال غريبة من الطيور ذات الوان جذابة منها الأصفر والأخضر والبرتقالي. والقاصدين لشعيبة الحمير لابد وأن يحضروا معهم المناظير والكاميرات، حيث سيستمتعون بالتقاط الصور مع تلك الحيوانات، ثم مشاهدة الطيور العجيبة بواسطة المنظار، على الرغم من أنها تحلق بالقرب من السائح. بل إن بعض الحيوانات هناك تتناول المشاوي التي يجود بها الزوار والمتنزهين.
بعد الانتهاء من الكتابة وفي ليلة تسليم الدراسة التي ظهرت في خمس صفحات، قام الأب بالجلوس معي وبدأنا في استعراض الدراسة وتحرير الكتابة، حيث لا زلت أتذكر أنه كان يقرأ الجمل ثم يلتفت إلي وعلى وجهه علامات العجب وكنت لا أعرف سر كل ذلك، إلى أن توقف عند "شعيبة الحمير"، وقال: "لا أصدق أنك تركت شعيبة الحمير وأتيت إلى أمريكا".
بعد تسليم الدراسة، ظهرت المنافسة على أشدها، لدرجة أن المعلمة قررت أن تكون موضوعية أكثر في قرار الورقة الفائز بالمركز الأول، لذا عملت على تشكيل لجنة مكونة منها كمدرسة للمادة، ومديرة معهد اللغة، وعميد الطلاب الدوليين بالكلية الذي قرر منح جائزة من مكتبة لصاحب الورقة الفائزة، وهي عبارة عن مجسم للكلية، ليكون ذكرى جميلة لتلك الخبرة التي لن تتكرر للجميع. وبعد عدد من الاجتماعات التي عقدتها اللجنة استطعنا أن نعرف أن المنافسة منحصرة بين شقراء وجزيرة أوكيناوا اليابانية. ثم وفي نهاية المطاف أعلنت اللجنة أن شقراء هي الفائز بالمركز الأول. لقد فازت الدراسة التي انطلقت متأخرة، بل كادت أن لا تخرج للوجود بشكل كامل.
من أجمل الذكريات في تلك الخبرة أن معلمة الكتابة وإلى أن تخرجت من المعهد وهي كل ما تراني تذكرني بأنها تحب "شعيبة الحمير"، وذات يوم وأنا جالس في مطعم الكلية جاءت تركض وأسارير وجهها تكاد تنطق فرحاً وهي تقول : "هل تصدق بأنني رأيت في المنام ليلة البارحة شعيبة الحمير؟ لقد شاهت تلك الطيور الجميلة التي ذكرتها في الدراسة .. أتمنى أن يأتي يوماً وأذهب فيه فعلاً إلى هناك" ثم غرقت في التفكير وقد ضعت يدها على خدها وهمست : "كم أحبك يا شعيبة الحمير !".




 2  0  26.3K


الترتيب بـ

الأحدث

الأقدم

الملائم

  • نجيب الغريري

    هههههه أسلوبك رائع جداً في الكتابة ،، وأكثر ما شدني في موضوعك قول أب العائلة : لا أصدق أنك تركت شعيبة الحمير وأتيت إلى أمريكا !!
    أضحك الله سِنّك

    25-12-2018 08:54 صباحًا

    الرد على زائر

جديد المقالات

بواسطة : الإعلامي الدكتور : فلاح الجوفان

. تجلت الإنسانية في أبهى صورها ، عندما تعرض "...


بواسطة : عبدالعزيز عبدالله البريثن

. آه .. ويح من فقد أمه، ولم يقبلها في ضحاه، أو...