اطلعت على ما دونته يد الدكتور زاهر بن عواض الألمعي في عدد الجمعة 14827 من الجزيرة، الموافق 23 جمادى الآخرة 1434هـ، تحت عنوان (شقراء الحبيبة). وقد حركت هذه القصيدة أشجاني، وأشعلت ذكرياتي؛ فكتبت هذه الأسطر وفاء وبراً لشيخنا الدكتور زاهر بن عواض الألمعي، الذي كان ضيفاً لجائزة الجميح للتفوق العلمي.
فأقول مستعينا بالله:
ضيفنا أُعجب بهذه المحافظة أيما إعجاب، ووصفها بأحلى الأوصاف. هذه الشخصية الفذّة تعلّمت في شقراء، وعاشت في ربوعها، وكان ذلك عام 1377هـ.
الشيخ زاهر فاجأ الحضور بزيارته الرائعة وقصيدته المؤثرة؛ ما جعل الجيل الجديد يتساءل من هو الدكتور زاهر؟ لهذا بسطت هذه الأسطر؛ ليتعرف الجيل الجديد على هذه الشخصية المتواضعة.
قبل الجواب انقل لكَ بعض كلماته عن شقراء:
يقول ضيفنا الذي أحبّ شقراء وعشقها وألِف أهلها «لقد أحببتُ شقراء حقاً، ولا أدري أهو لما نهلته من فوائد علمية في رحاب معهدها، أم هو لما لقيته من معاملة حسنة كريمة من أهلها، أم لجمال ما يحيط بها من الشمال والجنوب من تلال كنتُ أصعد عليها وأنشد الأشعار والأهازيج عندما يشتد شوقي لموطن الأهل والعشيرة، وأحسبُ أنها عوامل كونت عندي مشاعر الحب والوفاء لشقراء وأهلها».
لقد أفاض في المديح والثناء لأهل شقراء الأعزاء، وخصوصاً أثناء حديثه عن الرعيل الأول الذي عاش معه، وتأثر بتعاليمه وأخلاقه.
يقول الدكتور زاهر: قصتي مع طلب العلم في شقراء قصة طريفة، وذلك أنني استَقلتُ من الوظيفة على أساس دخول المعهد وطلب العلم، وتوجهت إلى سماحة الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم آل شيخ، وكان مدير المعاهد والكليات آنذاك، فخيرني بين معهدين خارج الرياض (معهد شقراء ومعهد الأحساء)، ولم يكن عندي معرفة بأي من المدينتين أو المعهدين. أطرقت قليلاً، ثم رددت اسم شقراء على لساني، وقلت في نفسي هذا اسم جميل، إنه اسم شاعري جذاب، ولكل مسمى من اسمه نصيب، ثم رفعت رأسي وقلت لسماحة الشيخ أريد معهد شقراء العلمي، فدعا لي بالخير، وأمر مدير مكتبه الشيخ/ حمد المبارك بالكتابة إلى مدير معهد شقراء العلمي بقبولي في السنة الأولى، وأخذت الخطاب معي وتأهبت للسفر إلى شقراء.
كانت وسائل النقل صعبة إلى حد كبير، ذهبتُ إلى موقف السيارات المسافرة إلى شقراء، ولم أجد سوى (وايت)، ولم أجد مكاناً به إلا على ظهر السيارة. وصلنا إلى شقراء بعد عناء وجهد، وكان الوقت قريباً من الفجر. انتظرت إلى بعد الفجر فإذا بطلاب المعهد يتوافدون إليه، ومشيت إلى المعهد وقد لبست ثياباً مناسبة ومشلحاً. دخلت على مدير المعهد الشيح/ محمد بن سليمان الأشقر، واستقبلني استقبالاً طيباً؛ إذ خالني أحد المدرسين الجدد، فلما أعطيته خطاب سماحة الشيخ أعاد الترحيب من جديد بحماس أقل.
سمح لي بدخول الفصل، ومشى معي أحد الفراشين إلى الباب ثم رجع، واستأذنت مدرس الفصل في الدخول، وجلست على أحد المقاعد، وقد توقع المدرس هو الآخر أنني أحد المفتشين؛ لأنني كنت كبيراً في عمري ولبسي للمشلح سبب لي ولهم إحراجات كثيرة. كان المدرس يشرح الدرس ويتلعثم، ويكتب القواعد النحوية على السبورة بطريقة غير عادية، وعرقه يتصبب خشية الملاحظات، وانتهت الحصة، وسأل، فأخبروه بأنني طالب، فتنفس الصعداء ولسان حاله يقول آن لأبي حنيفة أن يمد رجله.
التقيتُ بأحد أساتذة المعهد، وهو الشيخ المعروف/ عبدالله بن حسن بن قعود، ودعاني للغداء، وأصر على ذلك، وذهبت إليه، وبعد الغداء أخبرته برغبتي في استئجار بيت للسكن، ولا أعرف أحداً في البلد، فخرج معي، ووقع الاختيار على بيت من الطين قديم لأحد المواطنين اسمه/ إبراهيم بن محمد الشائع، ويتكون من دورين، أخذت غرفة، واتفقنا مع صاحبه بأجرة قدرها مائة وعشرون ريالاً في السنة.
كذلك دعاني رئيس المحكمة الشيخ/ صالح بن غصون إلى منزله بعد أن ألقيت كلمة في المسجد الجامع، وقد لاقت استحسان الجميع.
كذلك دعاني رئيس الهيئة الشيخ/ عبدالرحمن الحصين. بعد ذلك بدأت نظرة الأساتذة في المعهد وكذلك الطلاب تتجه إليّ بشيء من التقدير والاحترام، وهي مشاعر طيبة، كان لها في نفسي آثارٌ عميقة؛ إذ خففت عني مشقة الغربة. وبدأت الدراسة بجدية خلال السنوات الخمس التي قضيتها في معهد شقراء العلمي، وأحسب أنها أفضل أيام العمر من حيث الجدية والتحصيل العلمي.
يقول ضيفنا عن شقراء:
وشقراء مدينة يعشقها الزائر، وقد تطورت في الآونة الأخيرة فأصبحت مدينة حضارية.
مواقف طريفة في أرجاء المعهد يرويها الضيف:
في إحدى الحصص طلب الشيخ صالح بن غصون من الطلاب أن يستمع منهم الدرس حفظاً، وبدأ الدور، وكان أحد الزملاء في آخر الفصل، ويبدو أنه لم يحفظ الدرس، ففتح الدرج بخفيه، وأظهر الكتاب ليقرأ منه، فنهره الشيخ بشدة، وقال «يا فلان أعد الكتاب إلى مكانه». وقد دهش الطلاب لهذا؛ إذ لم يسمعوا أي حركة عند الطالب، وإنما كانت محاولة وفطن لها الشيخ مع كونه كفيفاً لا يُبصر.
وفي إحدى الحصص كان مدرس الجغرافيا يضرب لنا أمثلة عن صادرات مصر وبعض الأقطار العربية، وذكر أن المملكة حتى الآن لم تقم بتصدير أي صناعات بل هي من الدول المستوردة. طبعاً ساءنا هذا الكلام؛ فثارت ثائرة زميلنا/ عبدالله العمر، ووقف وقال يا أستاذ المملكة عندها صادرات مهمة، فقال الأستاذ بحماس ماذا تصدر؟ فقال زميلنا نحن نصدر التوحيد والعقيدة الصحيحة. ضحك الأستاذ ودعا للطالب بخير، وقال «خلاص على عيني وراسي هذه صادرات».
ضيفنا تحدث كذلك عن زملائه الذين حضروا معه من الجنوب من الألمعيين إلى شقراء للعلم فقال:
بقينا في شقراء في متعة غامرة ووجدانية لما نتلقاه في المعهد من دروس في مختلف العلوم، ولما نلقاه من معاملة حسنة كريمة من أهالي شقراء، تلك المعاملة التي يسودها الحب والصفاء والاحترام المتبادل، هذه المعاملة من الأهالي والزملاء الذين معي وحضروا من الجنوب أنستنا آلام الغربة ومفارقة الأهل والعشيرة.
ضيفنا كان بارزاً في الشعر؛ فكان يشارك في كل محفل يقام في المعهد وخارجه؛ حيث إن المعهد شهد نشاطاً ثقافياً رائعاً، وأُثيرت بين الطلاب روح المنافسة الشريفة في مجال الصحافة والمسابقات والمسرحيات والمساجلات الشعرية.
ضيفنا لم يكن شاعراً داخل المعهد فحسب، بل ألقى قصيدة جميلة عند رحلتهم من معهد شقراء إلى القصيم، من أبياتها:
ركب أفاض مودعا شقراء
خفقت معالمه منى وسناء
واهتز في حلل المسير كأنه
طود أشم، تماسكا وإخاء
لما مررنا المستوي وروضة
يختال في ثوب الربيع بهاء
حتى بلغنا من بريدة سفحها
وتوافدت منا الجموع مساء
إلى آخر ما ذكر في قصيدته الطويلة التي يصف فيها مشاعره في تلك الرحلة العطرة، حتى قال في آخر أبياتها:
لكن في شقراء مركزنا الذي
لا نبتغي بدلاً به وفداء
كذلك كانت الوفود الطلابية تزور معهد شقراء؛ إذ زار المعهد وفدان من معهد الرياض ومعهد الأحساء، فقال الضيف ترحيباً بهم:
تشعشع نور الهدى وانبرى
بشقراء عم الربى والذرى
أتتنا الرياض بأشبالها
وأحساء أهدت لنا الجوهرا
أيا وفد أهلاً وسهلاً بكم
وطبتم وحييتم معشرا
نزلتم بمعهد شقراء غرا
كراماً فأضحى بكم مزهرا
وفاح الأريج بكم عاطراً
وفي كل ربع حللتم سرى
إلى آخر الآبيات.
ويقول ضيفنا: شقراء وذكرياتها عزيزة على نفسي محببة إلى قلبي، كيف لا؟ وقد عشت معها زهرة العمر وأسعد أيام حياتي الدراسية.
وتحدّث ضيفنا عن كرم أهالي شقراء قائلاً:
لست في حاجة للإفاضة في هذا الموضوع، لكن لقيت أنا وزملائي من رجال ألمع كرماً جمًّا، وحسن معاملة ممن اجتمعنا بهم وتعاملنا معهم من أهالي البلد.
ثم ذكر الضيف تلك العادة الجميلة في تلك المدينة الجميلة، وهي قهوة بعد المغرب، التي لا تكاد تنقطع في كل ليلة. ومن النوادر التي يذكرها ضيفنا أن من الألفاظ الشائعة عند الأهالي قولهم «القهوة عندنا بين العشاءين أو بعد العصر»، فإذا وافق المدعو وتحدد الموعد قال الداعي إذا قابل أحد ممن يرغب حضوره لتلك القهوة «ترانا شابين الليلة لفلان» يقصد بذلك إيقاد النار والاستعداد لاستقبال الضيوف.
وهذه العادات الجميلة جعلت بعض الوافدين يحاكيهم في كلماتهم وأخلاقهم، وأذكر على سبيل المثال أستاذنا يحيى أمين حافظ من مصر، الذي دعا بعض أساتذة المعهد للقهوة على طريقة أهالي شقراء، وذهب يعرض على زملائه وأصدقائه الحضور في الموعد المحدد، وقال لهم بهذا اللفظ «ترانا شابين على الأساتذة الليلة بعد العشاء». واعتذر عن عدم الحضور معظم المدعوين قائلين إنهم يريدون أن يشب عليهم لا لأجلهم.
ثم تكلم ضيفنا عن تلك الأمسيات والجلسات الخارجية (خارج المعهد) فيقول: من أبرز الأمسيات التي لا تزال مرتسمة في ذهني هي تلك الأمسيات التي يحضرها الشيخ/ إبراهيم بن محمد الشائع إمام مسجد الحلة الشمالية، الذي كان عمره آنذاك يزيد على المائة، وكان يقص علينا الأخبار، ويؤشر أحياناً بالعصا فننصت خاشعين. وفي الحقيقة إن عنده من القصص والأخبار ما يشد السامعين، وبخاصة أخبار الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه -.
يقول ضيفنا لحظة فراقه شقراء بعد أن نهل من علم أساتذتها النجباء، ورشف من معين عيونها الصافية، وعاش بين صحب أحبهم وأحبوه، يقول:
كان وداع شقراء أمراً غير هين على نفسي رغم ما أنتظره في الرياض من مستقبل طيب أحسن.
ساعة الفراق لبلد عشت فيه خمس سنوات، كلها محبة وإخلاص وصفاء، كانت ساعة عصيبة، وبخاصة أنني متيقن أن مثل هذه الأيام لن تعود في حياتي الدراسية.
يقول الضيف: انطلقت بنا السيارة تجوب الشارع الرئيسي في شقراء، ومررنا بمكان دراستي (المعهد العلمي بشقراء)، وأخذت أتلفت يميناً وشمالاً قائلا: «وداعا يا شقراء»، ثم أخذت في إنشاء أبيات، أذكر منها ما يأتي:
نظرت إلى شقراء نظرة واله
تدافع في أعماقه المد والجزر
نظرت لها وقت الرحيل مودعا
معاقل إخوان يطيب بهم ذكر
سلام على شقراء ما ذر شارق
وما فاح من نبت الروابي بها عطر
وبوركت يا شقراء قوماً وموطناً
ومنتجعاً في ساحة الروض مخضر
وفي ختام هذه السيرة الجميلة والعطرة يبقى أن تعرف أن ضيفنا في هذه الحلقة هو الشيخ الفاضل/ د. زاهر بن عواض الألمعي، أستاذ التفسير بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عضو مجلس الشورى.
موقفان أتذكرهما لضيفنا
الأول: ما حدثتني به والدتي - رحمها الله - عن الشيخ زاهر؛ إذ كان يسكن في بيت جدي، وكانت الوالدة - رحمها الله - تطعم الشيخ في بعض الأحيان من طعام البيت، وبخاصة من الأكلات المشهورة عندنا كالمرقوق والجريش، وكان الشيخ دائماً ما يدعو لها، وكان والداي يثنيان على خلق الشيخ وأدبه وتواضعه وعفته.
الموقف الثاني: قابلتُ الشيخ في الرياض، وتحديداً بجامعة الإمام، ودعوت الشيخ إلى زيارة شقراء فسألني من أنت؟ فأخبرته، ففاضت عيون الشيخ بالعبرات؛ لأنه تذكر مراتع الصبا، فهش الشيخ في وجهي، وسألني عن الأهل والبلد فأخبرته بحالهم، وألححت على الشيخ في الزيارة، فاعتذر لظروفه الصحية، ثم قال الشيخ: «والله كم أتمنى زيارة مرتع الصبا لأصعد ذلك الجبل الأشم الذي كنت أقضي فيه معظم وقتي مذاكراً وناظماً للشعر»، ويعني بذلك الجبل الشمالي. ولحظة مغادرة الشيخ ودعني بهدية قيمة من إصداراته المباركة الطيبة.
عزائي أن الشيخ حضر شقراء الأسبوع الماضي بعد غياب طويل دام خمسين عاماً، لكن كنت وقتها في سفر، ولم أعلم بزيارة الشيخ، ولكن لعل الله يكتب موعداً قريباً، نعيش فيه فرحة الأحبة.
*مدرس العلوم الشرعية بالمعهد العلمي في محافظة شقراء
الترتيب بـ
الأحدث
الأقدم
الملائم
ابومشاري
جميل جميل جميل ما كتبهنا وما تم تسطيره
ما أجمل الذكريات وأمتعها
جزيت خيرا وبارك الله فيك
24-05-2013 08:05 مساءً
ماهر البواردي
جولةفي الماضي، سرد جميل للسيرة الجميلة لرجالات شقراء، أولئك الذين خلقوا لشقراء مكانتها. وبعلمهم ونهجهم وخلقهم وضعوا شقراءمحطة جميلة في ذكريات كل من زارها.
أهنئك على هذا المقال الجميل المعطر.
ابوخالد
25-05-2013 04:05 مساءً
ابو حسين
السلام عليكم / بارك الله فيك يا خالي الحبيب .
ليت يكون في المهرجان القادم في القرية يكون هناك مجلس للقصص القديمة في السوق عبر المكبر
الصوتي .وشكرا.
04-06-2013 01:56 مساءً